2009/12/16

الفارس المتمرد


نقلا عن جريده المصرى اليوم

أنا مفكر منذ كنت فى «بطن أمى».. وشكوكى كانت «منهجية» وليست بسبب «العناد» ١٥/ ١٢/ ٢٠٠٩

في مرحلة الشباب
لم تكن نشأته عادية، فمن يقرأ وهو فى الثامنة من عمره كتابات داروين وسلامة موسى، التى يصعب على البالغين استيعاب ما تحمله من أفكار طفل غير عادى.. وفى هذه النقطة يقول مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ، الذى ينتهى نسبه إلى علىّ زين العابدين إلى على بن أبى طالب: «كان كل ما يحاوطنى يدفعنى للتفكير.. ورفض المنطق أو المسلمات،
فعندما أنشأ وسط سبعة أخوة أنا أصغرهم، ويكون أبى هو الزوج الثالث لأمى، والمفارقة الغريبة أن تكون أمى الزوجة الثالثة لأبى، وعندما يخبرونى أنى ولدت لتوأم اسمه سعد لكنه توفى بعد الولادة بأيام قليلة.. وهو الأمر الذى شغلنى كثيرا فى طفولتى أننى فقدت توأمى الذى وهبه الله لى.. ولدت فى قرية ميت خاقان القديمة بمدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية، التى كانت تسمى أيامها مديرية المنوفية، وكان ميلادى يوم ٢٠ ديسمبر عام ١٩٢١،
ولكن المقيد فى شهادة ميلادى هو يوم ٢٧ ديسمبر ١٩٢١ أى بعد ميلادى الحقيقى وهذا كان سببه أن معتقدات الناس فى وقتها أن المواليد لا يتم قيدهم إلا بعد مرور أسبوع لعل الطفل يموت فيصبح لا داعى للأوراق والدفاتر والسجلات وخلافه، وهذا ما حدث بالفعل مع توأمى، ولم يقوموا بتسجيلى بالتالى إلا بعد أن ارتاحت الأسرة بأنى يمكن أن يكون فى عمرى بقية.
ما تلى ذلك من سنوات كان مثيراً للدهشة فعلا وهو ما غيّر فى طفولتى بالفعل، لأنه حدثت بينى وبين المرض صداقة غريبة وقد عانت أسرتى بسبب أمراضى المتكررة، وربما يعود السبب فى ذلك إلى أننى مولود ابن سبعة أشهر. أتذكر مشاهد غريبة لا أنساها أبدا وأنا طفل صغير حين كنت أشاهد زملائى يلعبون ويمرحون ويلعبون الكرة ويجرون ويتصارعون بينما كنت عاجزاً عن أن أفعل مثلهم بالفعل وإلى الآن مازالت نزلة برد خفيفة يمكن أن تسكننى فى الفراش لمدة شهر،
ولهذا كان يجب أن أبحث عن ذاتى ولا يمكن أن أستسلم للمرض، ولهذا لم يكن غريبا أن يكون لى عالم خاص، لأنى أختلف كما رأيتم عن أقرانى، فكنت أتركهم يلعبون الكرة وأدخل عالمى الخاص لأتجول فيه ما بين البطولات والانتصارات بداية من السندباد ورحلاته التى كانت لا تفارقنى والمكتشفين والعلماء وكانت أحلامى كلها بطولات سواء بطولات عسكرية مثل خالد بن الوليد والإسكندر الأكبر الذى كتبت فيما بعد مسرحية تحمل اسمه أو بطولات علمية مثل ماركونى وأديسون.
انتقلت الأسرة بعد ميلادى بأيام إلى شارع «الحلو» الذى كنا نسكن فيه بمدينة طنطا بمحافظة الغربية حاليا، بعد أن كانت تلقب بمديرية الغربية، وحين أتذكر تلك المرحلة المبكرة من حياتى تأتينى وعلى الفور من الذاكرة صورة والدى، ذلك الحنون الذى ينتمى فى خاطرى إلى تكوين الملائكة.. كان يحتضننى ويحملنى على كتفه فور عودته من عمله فى الديوان العام لمديرية الغربية،
ولأننى كنت آخر العنقود ومريضا فى نفس الوقت فقد كنت مدللا بمعنى الكلمة، رغم أن حال الأسرة أقل من المتوسط، فلو قلت له أحضر لى لبن العصفور لفعل ذلك دون تردد، وإذا قلت لهم «نفسى فى الملوخية» كما كنت أفعل دائما لأننى أحبها فكان يسرع والدى ووالدتى إلى كل الجيران يبحثون عن الملوخية إذا لم تكن فى قائمة طعامنا يومها، وكانوا لا يردون لى طلبا مطلقا، وكما سبق وقلت كانت أمى هى الزوجة الثالثة لأبى وكان أبى هو الزوج الثالث لأمى، فقد تزوج أبى زوجته الأولى التى رحلت بعد زواجه منها وعلى ما أتذكر كان اسمها سعاد،
ثم تزوج الثانية وفشل فى زيجته، ثم كانت أمى هى الزوجة الثالثة له، ومن المفارقات الغريبة أنه هو أيضا كان الزوج الثالث لها ولأن أبى كان إنساناً طيباً حنوناً فقد ضم كل أولادها من زوجيها السابقين إليه ولهذا فقد كان منزلنا يضم عائلة كبيرة: شقيقتى الكبرى من أمى وشقيقتى الصغرى «اعتدال» وقد رحلتا منذ فترة كبيرة وشقيقين من زوج سابق لها وهما حلمى مراد ومحمد مراد، بالإضافة إلى شقيقى الأكبر المرحوم حسن محمود، الذى كان (محافظاً للدقهلية) فى الستينيات،
وشقيقى مختار هذا فضلا عن شخصى وتوأمى «سعد» الذى رحل بعد أيام من مولدنا، وبهذا فكانت الأسرة تتكون من تسعة أفراد بعد موت سعد، وكانت أمى طيبة وحنونة وسيدة منزل مدبرة حازمة وكأنها تحقق بذلك التوازن فى الأسرة لأبى المفرط فى عمليات الصرف، وكانت وزيرة اقتصاد لمرتب أبى الضئيل،
حيث كان يعمل محضراً براتب لا يتجاوز ٨٠ قرشاً، ولكنه كان إنسانا مثقفا يتحدث الفرنسية بطلاقة، فقد كانت شهادة الابتدائية التى حصل عليها تحمل فى مناهجها ودراستها التعمق فى دراسة اللغات الأجنبية ومنها الإنجليزية والفرنسية، ثم تدرج أبى فى مناصبه من أولى الدرجات الوظيفية كمحضر إلى أن وصل إلى سكرتير فى مديرية الغربية وارتفع راتبه من ٨٠ قرشا حتى وصل إلى ٢٠ جنيها وهو أكبر راتب حصل عليه فى حياته، وكانت له عادة لم يقطعها فى حياته منذ أول راتب تقاضاه وحتى آخر راتب،
وهو أنه كان يعطف بربع راتبه على الفقراء، كان يذهب إلى أقاربه الفقراء والجيران ومعارفه الذين كان يرى فيهم رقة الحال فى القرى المحيطة بطنطا ويوزع عليهم ربع هذا الراتب الضئيل، فقد كان حنونا عطوفا إلى أبعد مدى مع زوجته وأولادها وأقاربها ومعارفه، وعلى الرغم من الراتب الصغير الذى كان يتقاضاه أبى فإننا كنا نشعر بأننا أثرياء فلا نأكل إلا أفضل الغذاء،
ولا أستطيع أن أعلل أو أفسر سوى أنها «البركة»، فالراتب ضئيل وصغير ولكن الله بارك فيه، لأن من تقاضاه قد بذل فى سبيله العرق والجهد الذى يستحقه وقد أتقن عمله على الوجه الأكمل فبارك الله له فيما رزق، وكانت اللحوم والخضر والفاكهة والمأكولات لها طعم ونكهة تختلف عن الآن تماما، فما نأكله اليوم «كيماويات وأدوية وهرمونات»..
لا أستطيع أن أنكر أننى عشت حياة متواضعة فى منزلنا لكن شملتها الراحة والسكينة والطمأنينة والبركة فى المعيشة والمأكل والمشرب والملبس، حقيقى أننى لم أكن أعرف السيارة أو التاكسى ولكن «الحمار» فى أحسن الأحوال كان وسيلة جميلة أستخدمها حينما كنت أريد أن أذهب إلى القرى المجاورة لزيارة أقاربنا ومعارفنا وكان طريقى إلى المدرسة أقطعه سيرا على الأقدام يوميا ولا أنسى أن زملائى فى المدرسة (وكان اسمها الكتاب الشوكى نسبة إلى صاحبها الشيخ محمد الشوكى الذى كان يدرس اللغة العربية وكنت ألقبه بالبعبع نسبة إلى عنفه وشدته) كانت تنتظرهم على باب المدرسة سيارات فارهة لتوصيلهم إلى منازلهم، لكنى لم أعقد مقارنة مطلقا بينى وبينهم،
لم أحلم يوما بأن يكون لدى سيارة أو قصر ولم يخطر ببالى ضرورة أن أكون غنيا، فقد كنت أعيش بكل كيانى فى عالمى الخاص وهو كان عالماً مليئاً بالقيم والمثل العليا ومليئاً بالبطولات والانتصارات، ودائماً كان بداخلى انتصار الخير على الشر فى هذه الحياة، ورغم مرض أبى سبع سنوات كاملة كان فيها طريح الفراش فإننى لم أسمع منه شكوى واحدة أو عبارة تحمل نبرة السخط والتذمر بل كانت الابتسامة لا تفارق شفتيه أبدا،
وكان يؤدى فروض الرجل المسلم الموحد حتى آخر يوم فى حياته، وأيضا كان يعتريه فى أواخر أيامه النسيان فكان يدخل عليه أصدقاؤه من المشايخ ويقولون له: يا شيخ محمود أنت رفعت عنك التكاليف، وكان أبى يضحك وهو يرد عليه قائلا: لا يمكن أن ترفع التكاليف أبدا. وحينما كان ينسى بحكم السن والشيخوخة وضعف الذاكرة عدد الركعات كان يسألنى لأذكره. لقد كان أبى يمثل لى الكمال الخلقى النادر، وتعلمت منه الكثير من القيم والمثل العليا والنبيلة.
وقد كنت من مواليد نفس برج أبى، وهو برج القوس، لذا تمتعت بنفس صفاته ولم أكن من مواليد برج الجدى، وهذا يفرق كثيرا فى الأبراج، لدرجة أن أحد رجال الفلك وكان يدعى الشيخ حسين ضرب لى النجم وحسب لى من المراجع الفلكية منذ أكثر من أربعين سنة، وقال لى أنت لست من برج الجدى، ولكن من برج القوس، وشكلك وملامح وجهك وصفاتك تقول إنك من برج القوس، ومن مفارقات الأيام أن هذا المنجم قد تنبأ بما سيحدث لى على مدى عشرين عاما بالتفصيل والأرقام، ولا تسألونى عن إيمانى بالمنجمين، لأنى لا أقصد شيئاً ولكن فقط أقص عليكم ما حدث معى بالضبط.
كان مصطفى محمود يعرف ما نريد الحصول عليه بالضبط، فمما سبق عرفنا منه كيف تكونت أفكاره المتمردة أو المختلفة، ولكنه كان يلمح فى نظراتنا التلهف على معرفة كيف خرجت هذه الأفكار إلى أرض الواقع فقال:
«طفولتى كانت غريبة وعجيبة، كما ربانى والدى فى المسجد والكتاب، أى أنها كانت طفولة دينية من الدرجة الأولى، لكننى لم أجد فى نفسى المتلقى التقليدى وخلاص، بل كان كل شىء يدخل بداخلى كان يمر على مصفاة فأنتقى الأشياء التى أشعر أنها يقينية وأتخلص من أى شىء أشعر بأنه هراء حتى لو كان من شيخ الجامع،
فمثلا الجميع يعرف قصة مرحلة الشك وكيف عبرت منها من الشك إلى اليقين، ولكن الذى لا يعلمه أحد أن إمام مسجد هو من زرع بداخلى بذرة الشك الأولى فى العقيدة، وفى كل ما يحيط بى خصوصا المسلمات (أى الأمور الفطرية التى يتعامل معها الإنسان كأنها أمور طبيعية مثل ما يتلقاه الابن من والديه فى طفولته وهكذا)، عندما تعامل معنا بجهل وكأنه يتعامل مع (شوية فراخ) دون أن يعلم أننى سأكون له بالمرصاد،
فقد كنت منذ طفولتى المبكرة أشعر بقلبى وعقلى يتجهان إلى الدين، فمنذ السابعة من عمرى كنت متجها للدين بكل حواسى ومشاعرى أصلى الفروض جميعها فى المساجد وأستمع بإنصات واهتمام شديدين إلى الأئمة والشيوخ والدعاة فى المساجد، وكنت أتردد فى هذه الفترة على مسجد وضريح سيدى عز الرجال الموجود فى طنطا مع مجموعة كبيرة من أصدقائى نصلى الفروض والسنن ونستمع إلى وعظ شيخ الجامع (جامع سيدى عز الرجال والشيخ كان اسمه محمود) الذى كان يمثل لى قيمة كبيرة لم يتساو معها أى شخص فى تلك الفترة، ولهذا كنت أدون كل ما يقوله ونحضر المولد وحلقات الذكر وراءه، إلى أن جاء يوم قال لنا فيه الشيخ محمود: شوفوا ياولاد..
أنا سأقول لكم على طريقة تقضون بها على الصراصير والحشرات الضارة فى المنزل وهى طريقة دينية عظيمة جدا، وكل واحد يفتح الكراسة وسوف أملى عليكم هذه الطريقة العظيمة الجديدة.. وأخذ يملى علينا كلاماً عبارة عن مزيج من الآيات والطلاسم، ثم قال لنا: الصقوا هذه الورقة على الحائط وسوف تكتشفون أن الصراصير سوف تموت موتاً شنيعاً على هدى هذه الطريقة الدينية العظيمة.. وبالطبع فقد فرحت من كل قلبى، لأننى كنت على استعداد لتصديق كل ما يقول وكتبت كل ما قاله بالحرف الواحد ولصقته باهتمام شديد على الحائط وجلست منتظراً النتيجة، لكن خاب ظنى،
وأصبت بإحباط شديد، فقد تزايدت الصراصير وأصبحت أضعاف ما كانت قبل طريقة الشيخ، بل الأدهى من هذا أن الصراصير اتخذت من الورقة التى أخبرنى بها الشيخ ملجأ لها ومن يومها أحسست أن الرجل «نصّاب كبير»، وبدأت أشك فى كل شىء ليس فى هذا الشيخ وحده ولكن فى كل من حولى، وكانت هذه هى بذرة الشك التى زرعت فى نفسى وقد زرعها الشيخ محمود خطيب وواعظ جامع سيدى عز، لم أشك فى الورقة التى دعا إليها فقط أو فى حديثه، ولكن اعترانى شك فى كل شىء.
قصة الشك وتاريخها أصلا مرتبطان بطبيعة تكوينى الفكرى وطبيعتى كمفكر.. ضحك وقال (وهنا أذكر بأننى كنت مفكراً وأنا فى بطن أمى) فمن طبيعة المفكرين أن يعيدوا النظر فى المسلمات، إنهم يبدأون من البداية الأولى، دائماً يبدأون من صفحة بيضاء، فهم على الدوام ضد المسلمات، فهذه هى الرحلة الطبيعية، وهى تعنى شكاً منهجياً وليس شكاً عنادياً، فهناك فرق بين أن يعاند الإنسان أو يجادل، وبين ألا يسلم بالبدهات أو يبدأ بالمسلمات بأن يكون منهجياً..
وبالفعل إن قصة الشك قديمة وبدأت معى من الطفولة حين كنت أخطو أولى خطواتى وكنت لا أزال مراهقاً صغيراً لم أتجاوز ١٢ عاما عندما أحببت أن أتمرد على شيخ الجامع فكونت جمعية فى بيتنا المقابل له وقد سميتها (جمعية الكفار)، وكنت أناوش الشيخ بها، كنا نكتب مطبوعات هذه الجمعية ونحاول اختراق المسجد لكى نلصقها بداخله ونوزعها على المصلين لجذب أعضاء جدد لكنهم أمسكوا بى ذات مرة وضربونى علقة ساخنة فى الجامع، وقد أخرج الشيخ كل غضبه علىَّ فى هذه المرة، لأننى فكرت ولأننى أول من اعترض على كلامه وأفكاره،
وكانت هذه الأفعال ليس من وحى خيالى، ولكنه كان تيارا موجوداً على الساحة أيامها ينشر هذا الاتجاه ممثلا فى كتب دارون وسلامة موسى وشبل شميل والتى كانت أفكارهم ثورة على الدين وهذه الثورة استهوتنى بشكل كبير وبالتالى سرت على هذا الطريق وهذا المنهج، وكنت أقضى يومياً من ٥ إلى ٦ ساعات فى مكتبة البلدة بطنطا وأقرأ فى مختلف المجالات وأدخل فى مناقشات ومجادلات وخناقات تنتهى بالضرب والجرى، خاصة بعد إنشاء (جمعية الكفار) هذه التى كانوا يعتبرون أفكارها بالطبع دعوة للكفر، وكان معى فى هذه الجمعية أصدقاء مسيحيون،
وخطورة هذا أن هذه الجمعية كانت ضد الأديان عموماً، وكانت مرحلة غريبة فى حياتى كلها على الإطلاق، ولو تأملتم كيف ولماذا تكونت جمعية الكفار أو ما هو مبعث شكوكى فى الأديان ستجدوا أن شيخاً واعظاً هو الذى قادنى إلى الشك، فقد ولدت شكوكى على يد شيخ، والسبب فى هذا أنه تحدث بجهل وخطأ،
وهذه أسوأ طريقة، فلاشك أن الوعظ الخاطئ يمكن أن يقود إلى كارثة مروعة، فالذى قاله شيخ سيدى عز الرجال لا يمت للدين بصلة مطلقاً، فهو لاشك رجل كذاب ودجال على أى حال، وكنت فى هذه الفترة من العمر أتساءل فى تمرد: «تقولون إن الله خلق الإنسان لأنه لابد لكل مخلوق من خالق ولابد لكل صنعة من صانع ولابد لكل موجود من موجد صدقنا وآمنا، فلتقولوا لى إذن من خلق الله أم أنه جاء بذاته وإذا كان كذلك فى تصوركم فلماذا لا تصدقون أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهى الإشكال»،
وعندما كنت أقول هذا فتصفر من حولى الوجوه وتنطلق الألسن تمطرنى باللعنات وتتسابق إلى الكلمات عن يمين وشمال ويستغفر لى أصحاب القلوب النقية، ويطلبون لى الهدى، نعم لقد رفضت عبادة الله، لأننى استغرقت فى عبادة نفسى، وأعجبت بومضة النور التى بدأت تومض فى فكرى مع انفتاح الوعى وبدأت الصحوة من مهد الطفولة.
وفى عمر الـ١٦ بدأت برفض المسلمات. لم أكن أريد أن آخذ شيئاً عن أبى وأمى، ولكن كنت أريد أن أجتهد اجتهاداً شخصياً، وبدأت بالمحسوس الذى أمامى ولم أبدأ بما وراء الطبيعة، وقد تمثل هذا المحسوس فى الطبيعة «الفيزياء» فوجدت الفيزياء والكيمياء عاجزة عن أن تفسر لى شيئاً عاجزة عن أن تفسر لى الحياة والموت،
ومن أجل ذلك استعنت بالفلسفة فوجدت أنها فى حاجة إلى فلسفة لتعينها، فبدأت بالأديان سواء كانت سماوية أو دنيوية (بوذا وزرادشت وعيسى وموسى ومحمد) فوجدت كمال الأمر كله فى القرآن.. وكانت هذه هى المرحلة الطبيعية، ورغم أننى اتجهت بقلبى إلى الدين فكانت هناك أسباب حقيقية قادتنى إلى الشك، ومن هنا بدأت رحلة الشك، وبدأت أحاور وأرفض وتحدث فجوة بينى وبين الدين وتزايدت هذه الفجوة تدريجياً.
أصدقاء فى لحظة الوداع
استيقظ الدكتور مصطفى من غيبوبته فى أحد الأيام، وطلب أن يرى أصدقاءه الأقرب، وهم الدكتور على بدران والدكتور عبدالقادر، وكلاهما أستاذ صيدلى، وبالفعل زاره كل منهما وقضيا معه اليوم، كما زاره المخرج المسرحى جلال الشرقاوى، أحد المقربين للدكتور مصطفى، الذى عاش معه مواقف عديدة واشتركا فى العديد من الأعمال الفنية،
وهى مواقف سيأتى ذكرها تفصيلا فيما بعد. وقد ذهب الشرقاوى صديق الدكتور مصطفى خمس مرات إلى المستشفى خلال شهور المرض الأخيرة، كما زاره الكاتب الصحفى محمد عبدالقدوس، نجل الأديب الراحل إحسان عبدالقدوس والسيدة روزاليوسف، وكلاهما كان له دور مهم فى بدايات الدكتور مصطفى محمود الأدبية والفكرية،
وكان محمد عبدالقدوس من آخر الأصدقاء الذين جلسوا مع الدكتور مصطفى قبل رحيله، بالإضافة إلى رسام الكاريكاتير رجائى، الذى يعتبر واحدا من أهم وأقرب الأصدقاء للدكتور مصطفى،
حيث ارتبطا ببعضهما البعض منذ البدايات المشتركة فى مجلتى «روزاليوسف» و«صباح الخير»، ورجائى هو صاحب الصورة الشهيرة التى رسمها لمصطفى محمود، وعلقها الدكتور على أحد جدران شقته وكان يقف أمامها كل يوم، ويتأملها حوالى نصف ساعة، خاصة فى السنوات الأخيرة.
العقاد وتشيكوف والأهرام
عندما صعبت القراءة على الدكتور مصطفى فى أيامه الأخيرة طلب من ابنته أمل أن تقرأ له فى اهتمامات ومجالات متنوعة، فأحيانا كان يطلب منها أن تقرأ له مقاطع من مؤلفات العملاق عباس محمود العقاد، أو قصص الكاتب الروسى الشهير أنطون تشيكوف الروسى، أو بعض الفقرات من الكتب العلمية، وأحيانا كان يطلب منها أن تقرأ له مقالات أصدقائه وتلاميذه فى الأهرام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قول اللى فى نفسك وعبر عن نفسك